قصة قوم يس
وهم أصحاب القرية أصحاب يس قال الله تعالى : " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون * وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون "
اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية رواه ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب ابن منبه ، وكذا روى عن بريدة بن الخصيب وعكرمة قتادة والزهري وغيرهم قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب أنهم قالوا : وكان لهم ملك اسمه انطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم : صادوق ومصدوق وشلوم ، فكذبهم
وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عز وجل ، وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من المسيح وكذا قال ابن جرير ، عن وهب ، عن ابن سليمان ، عن شعيب الجبائي : كان اسم المرسلين الأولين : شمعون ، ويوحنا ، واسم الثالث بولس ، والقرية أنطاكية
وهذا القول ضعيف جداً ، لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ولهذا كانت إحدى المدني الأربع التي تكون فيها بتاركة النصاري وهن : أنطاكية ، والقدس ، والإسكندرية ، ورومية ، ثم بعدها القسطنطينية ولم يهلكوا وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا ، كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين : " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " ولكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديماً فكذبوهم وأهلكهم الله ، ثم عمرت بعد ذلك ، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم ، فلا يمنع هذا والله أعلم
فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم ، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله
* * *
قال الله تعالى : " واضرب لهم مثلا " يعنى لقومك يا محمد " أصحاب القرية " يعني المدينة " إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " أي أيدناهما بثالث في الرسالة ، " فقالوا إنا إليكم مرسلون " فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم ، كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم ، يستبعدون أن يبعث الله نبياً بشرياً فأجابو بأن الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنها وانتقم منا أشد الإنتقام " وما علينا إلا البلاغ المبين " أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء " قالوا إنا تطيرنا بكم " أي تشاءمنا بما جئنمونا به " لئن لم تنتهوا لنرجمنكم " قيل بالمقال ، وقيل بالفعال ، ويؤيد الأول قوله : " وليمسنكم منا عذاب أليم " توعدم بالقتل والإهانة
" قالوا طائركم معكم " أي مردود عليكم " أإن ذكرتم " أي بسبب أنا ذكرنا بالهدى ودعوناكم إليه ، توعدتمونا بالقتل والإهانة " بل أنتم قوم مسرفون " أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه
وقوله تعالى : " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى " يعنى لنصرة الرسل وإظهار الإيمان بهم " قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون " أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة
ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة " إني إذا لفي ضلال مبين " أي إن تركت عبادة الله وعبدت معه سواه
ثم قال مخاطباً للرسل : " إني آمنت بربكم فاسمعون " قيل : فاستمعوا مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم ، وقيل معناه : فاستمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة فعند ذلك قتلوه ، قيل رجماً ، وقيل عضاً ، وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه
وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال : وطئوه بأرجلهم ، حتى أخرجوا قصبته
وقد روى الثوري عن عاصم الأحول ، عن أبي مجلز : كان اسم هذا الرجل حبيب بن مري ثم قيل : كان نجاراً ، وقيل حياكاً ، وقيل إسكافاً ، وقيل قصاراً ، وقيل كان يتعبد في غار هناك فالله أعلم
وعن ابن عباس : كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام ، وكان كثير الصدقة فقتله قومه ، ولهذا قال تعالى : " قيل ادخل الجنة " يعنى لما قتله قومه أدخله الله الجنة ، فلما رأى فيها من النضرة والسرور " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " يعنى ليؤمنوا بما آمنت به فيحصل لهم ما حصل لي
قال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله : " يا قوم اتبعوا المرسلين " وبعد مماته في قوله : " يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " رواه ابن أبي حاتم وكذلك قال قتادة : لا يلقى المؤمن إلا ناصحاً ، لا يلقى غاشاً ، لما عاين من عاين من كرامة الله " يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هو عليه !
قال قتادة : فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله : " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون "
وقوله تعالى : " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " أي
وما احتجنا في الإنتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم
هدا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال مجاهد وقتادة : وما أنزل عليهم جنداً ، أي رسالة أخرى قال ابن جرير: والأول أولى
قلت : وأقوى ، ولهذا قال : " وما كنا منزلين " أي وما كنا نحتاج في الإنتقام إلى هذا حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون "
قال المفسرون : بعث الله إليه جبريل عليه السلام ، فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون ، أي قد أخمدت أصواتهم ، وسكنت حركاتهم ، ولم يبق منهم عين تطرف
وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية ، لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم ، وأهل أنطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم فلهذا قيل إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح
فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين الأشقر ، عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السبق ثلاثة : فالسابق إلى موسى : يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى : صاحب يس ، والسابق إلى محمد : علي بن أبي طالب " فإنه حديث لا يثبت ، لأن حسيناً هذا متروك شيعي من الغلاة ، وتفرد بهذا مما يدل على ضغفه بالكلية والله أعلم
* *