قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
قال الله تعالى في كتابه العزيز : بسم الله الرحمن الرحيم :" كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "
وقال تعالى :" وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار "
وقال تعالى في سورة الأنبياء :" وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين "
وقال تعالى :" وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين "
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل : زكريا بن برخيا ويقال زكريا بن دان ، ويقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن اينامن ابن رحيعام بن سليمان بن داود ، أبو يحيى النبي عليه السلام من نبي إسرائيل
دخل البثنة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى والله أعلم وقد قيل غير ذلك في نسبه ويقال فيه زكريا بالمد والقصر ، ويقال زكري أيضاً
والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر وكانت امرأته مع ذلك عاقراً في حال شبيبتها وقد أسنت أيضاً حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى :" ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا " قال قتادة عند تفسيرها : إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي ، وقال بعض السلف : قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته فقال : يا رب يا رب يا رب فقال الله : لبيك لبيك لبيك " قال رب إني وهن العظم مني " أي ضعف وخار من الكبر " واشتعل الرأس شيبا " استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شيبه كما قال ابن دريد في مقصورته :
أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجا
واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا
وآض عود اللهم يبساً ذاوياً من بعد ما قد كان مجاج الثرى
يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطناً وظاهراً وهكذا قال زكريا عليه السلام :" إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا "
وقوله :" ولم أكن بدعائك رب شقيا " أي ما عودتني فيما أسألك إلا الإجابة وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان ، وكانت كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إبانها ولا في أوانها وهذه من كرامات الأولياء ، فعلم أن الرزاق للشيء في غير أوانه قادر على ان يرزقه ولداً وإن كان قد طعن في سنه " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " وقوله :" وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " قيل المراد بالموالي العصبة ، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون براً تقياً مرضياً ولهذا قال :" فهب لي من لدنك " أي من عندك بحولك وقوتك " وليا * يرثني " أي في النبوة والحكم في بني إسرائيل " ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي ، وليس المراد هاهنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير هاهنا وحكاه عن أبي صالح من السلف ، لوجوه :
أحدها : ما قدمناه عند قوله تعالى :" وورث سليمان داود " أي في النبوة والملك لما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين علماء الموري في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" لا نورث ما تركنا فهو صدقة " فهذا نص على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يورث ، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من ورثته الذين لولا هذا النص لصرف إليهم ، وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس رضي الله عنهم ، تواحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث ، وقد وافقه على روايته عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم
والثاني : أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء :" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وصححه
الثالث : أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسالوا الأولاد ليحوزوها بعدهم ، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولداً يكون وارثاً له فيها
الرابع : أن زكريا عليه السلام كان نجاراً بعمل بيده ويأكل من كسبها ، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده ، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهاداً يستفضل منه مالاً يكون ذخيرة له ولمن يخلفه من بعده ، وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهمه إن شاء الله
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، يعني ابن هارون ، أنبأنا حماد بن سلمة ن عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" كان زكريا نجاراً " وهكذا رواه مسلم و ابن ماجه من غير وجه ، عن حماد بن سلمة به
وقوله :" يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا " وهذا مفسر بقوله :" فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين "
فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير ، قيل كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة ، والأشبه والله أعلم أنه كان أسد من ذلك " وكانت امرأتي عاقرا " يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقراً لا تلد والله أعلم
كما قال الخليل :" أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون " وقالت سارة :" يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد "
وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه :" كذلك قال ربك هو علي هين " أي هذا سهل يسير عليه " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " أي قدرته ، أوجدتك بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً أفلا يوجد منك ولد وإن كنت شيئاً ؟ !
وقال تعالى :" فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت وقيل كان في لسانها شيء ، أي بذاءة
" قال رب اجعل لي آية " أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزاً وأنت في ذلك سوى الخلق صحيح المزاج معتدل البنية ، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار ، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسروراً بها على قومه من محرابه " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " والوحي هاهنا هو الأمر الخفي إما بكتابة ، كما قاله مجاهد والسدي ، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضاً ووهب وقتادة ، قال مجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة : اعتقل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد : كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد
وقوله تعالى :" يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه
قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب فقال : ماللعب خلقنا قال : وذلك قوله :" وآتيناه الحكم صبيا "
وأما قوله :" وحنانا من لدنا " فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا أدري ما الحنان وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك : " وحنانا من لدنا " أي رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا فوهبنا له هذا الولد ، وعن عكرمة : " وحنانا " أي محبة عليه ، ويحتمل أن يكون ذلكصفة لتحنن يحيى على الناس ولا سيما على أبويه ، وهو محتبهما والشفقة عليهما وبره بهما
وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره
ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمراً ونهياً وترك عقوقهما قولاً وفعلاً فقال :" وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " ثم قال " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان ، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر ، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ، ويصير إلى الأخر ولا يدري ما بين يديه ، ولهذا يستهل صارخاً إذا خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها ، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها !
وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينهما وبين دار القرار ، وصار بعد الدور والصور إلى عرصة الأموات سكان القبور ، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور ، فمن مسرور ومحبور ومن محزون ومثبور ، وما بين جيبر وكسير وفريق في الجنة وفريق في السعير ، ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول :
ولدتك أمك باكياً مستصرخاً والناس حولك يضحكون سرورا
فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ولما كانت هذه الواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل مواطن منها فقال :" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له الآخر : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسير وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما
وأما قوله في الآية الأخرى :" وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " فقيل المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء ، وقيل غير ذلك ، وهو أشبه لقوله :" هب لي من لدنك ذرية طيبة "
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان : حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغي لأحد يقول أنا خير من يونس بن متى "
علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وهو منكر الحديث وقد رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق أبي عاصم العباداني ، عن علي بن زيد بن جدعان به مطولاً ثم قال ابن خزيمة : وليس على شرطنا
وقال ابن وهب : حدثني بن لهيعة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه يوماً وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل : موسى كليم الله وقال قائل : عيسى روح الله وكلمته ، وقال قائل : إبراهيم خليل الله ، وهم يذكرون ذلك فقال :" أين الشهيد بن الشهيد ، يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب " قال ابن وهب : يريد يحيى بن زكريا
وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، حدثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول :" كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا "
فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين وقد عنعن هاهنا
ثم قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب مرسلاً
ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق : حدثنا محمد بن الأصبهاني ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله ابن عمرو قال : ما أحد إلا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا ثم تلا " وسيدا وحصورا " ثم رفع شيئاً من الأرض فقال : ما كان معه إلا مثل هذا ، ثم ذبح ذبحاً !
وهذا موقوف من هذا الطريق وكونه موقوفاً أصح من رفعه والله أعلم ، وأورده ابن عساكر من طرق عن معمر : من ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر ، وهو ضعيف ، عن عثمان بن ساج ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه
وروى عن طريق أبي داود الطيالسي وغيره ، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، عن أبيه ،عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام "
وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني : حدثنا إسحاق بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، سمعت أبا سليمان يقول : خرج عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا يتماشيان ، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى : يا ابن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبداً قال : وما هي يا ابن خالة ؟ قال : امرأة صدمتها قال : والله ما شعرت بها قال : سبحان الله بدنك معي فأين روحك ؟ قال : معلق بالعرش ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرقة عين فيه غرابة وهو من الإسرائيليات
وقال إسرائيل عن أبي حصين ، عن خيثمة ، قال : كان عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابني خالة وكان عيسى يلبس الصوف وكان يحيى يلبس الوبر ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ولا عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان إليه ، أين ما جنهما الليل أويا ، فلما أرادا أن يتفرقا قال يحيى : أوصني قال : لا تغضب قال : لا أستطيع إلا أن أغضب قال : لا تقتن مالاً قال : أما هذه فعسى
وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه : هل مات زكريا عليه السلام موتاً أو قتل قتلاً ؟ على روايتين فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، أنه قال : هرب من قومه فدخل شجرة فجاءوا فوضعوا المنشار عليهما ، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن ، فأوحى الله إليه : لئن لم يسكن انينك لأقلبن الأرض ومن عليها فسكن أنينه حتى قطع باثنتين
وقد روى هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله
وروى إسحاق بن بشر ، عن إدريس بن سنان ، عن وهب أنه قال : الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا ، فأما زكريا فمات موتاً فالله أعلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف ، - وكان يعد من البدلاء - حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال : يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أويخف بي قال : فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركن أن تعملوا بهن وأولهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً ، فإن مثل ذلك مثل من اتشرى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلبته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ، وإن الله خلقكم ورزقكم فاعدوه ولا تشركوا به شيئاً
آمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجه قبل عبده مالم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفتوا
وآمركم بالصيام فإن الله مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك ، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
وآمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه
وآمركم بذكر الله عز وجل كثيراً ، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل
قال : وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلق ربق الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم ، قال : يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ قال : وإن صام بدعوى الجاهلية وزعم أنه مسلم ، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل "
وهكذا رواه أبو يعلى عنهدبة بن خالد ،عن أبان بن زيد ، عن يحيى بن أبي كثير به وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي وموسى بن إسماعيل ، وكلاهما عن أبان بن يزيد العطار به ، ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ، عن محمد بن شعيب بن سابور ، عن معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري به ، ورواه الحاكم من طريق مروان بن محمد الطاطري ، عن معاوية بن سلام ، عن أخيه به ثم قال : تفرد به مروان الطاطري ، عن معاوية بن سلام
قلت : وليس كما قال ورواه الطبراني عن محمد بن عبدة ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن معاوية بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري فذكر نحوه فسقط ذكر زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري فذكر نحو هذه الرواية
ثم روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ذكر لنا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيم سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات وذكر نحون ما تقدم
وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس ، إنما كان يأنس إلى البراري ويأكل من ورق الأشجار ويرد ماء الأنهار ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان ، ويقول : من أنعم منك يا يحيى ؟
وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه فوجداه عند بحيرة الأردن فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديداً لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل
وقال ابن وهب عن مالك ، عن حميد بن قيس عن مجاهد قال كان طعام يحيى بن زكريا العشب ، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه
وقال محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهار ، قال : جلست يوماً إلى أبي إدريس الخولاني وهو يقص فقال : ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاماً ؟ فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال : إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاماً ؟ إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشتهم
وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد قال : فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبراً وأقام فيه يبكي على نفسه ، فقال : يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام وأنت في قبر احتفرته قائم تبكي فيه ؟ فقال : يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بيت الجنة والنار مفازة لا تقطع إلا بدموع البكائين فقال له : ابك يا بني فبكيا جميعاً وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه
وروى ابن عساكر عنه أنه قال : إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم ، فكذا ينبغي للصديقين ألا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عز وجل ثم قال : كم بين النعيمين وكم بينهما
وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه
بيان سبب قتل يحيى عليه السلام
وذكروا في قتله أسباباً من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها ، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك فبقي في نفسها منه فلما كان بينها وبين الملك ما يجب منها استوهبت منه دم يحيى ، فوهبه لها فبعثت إليه من قتله وجاء براسه ودمه في طست إلى عندها ، فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها
وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها ، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك ، فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طست
وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال : أنبأنا يعقوب الكوفي ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه ، عن ابن يحيى خبرني عن قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل ؟ قال : يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه ، وكان أجملهم وأصبحهم وجهاً ، وكان كما قال تعالى :" سيدا وحصورا " وكان لا يحتاج إلى النساء فهويته امرأة ملك بني إسرائيل ، وكانت بغية ، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام ، وكانت سنة الملك أن يعد ولا يخلف ولا يكذب
قال : فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته ، وكان بها معجباً ولم تكن تفعله فيما مضى ، فلما أن شيعته قال الملك : سليني ، فما سألتني شيئاً إلا أعطيتك قالت : أريد دم يحيى ابن زكريا قال لها : سليني غيره قالت : هو ذاك : قال هو لك قال فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي وأنا إلى جانبه أصلي ، قال : فذبح في طست وحمل رأسه ودمه إليها قال : فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : فما بلغ من صبرك ؟ قال : ما انفلت من صلاتي
قال : فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه ، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل : قد غضب إله زكريا لزكريا ، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا قال : فخرجوا في طلبي ليقتلوني وجاءني النذير ، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي فلما تخوفت ألا أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت : إلي إلي وانصدعت لي ودخلت فيها
وقال : وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجاً من الشجرة ن وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس : أما رأيتموه دخل هذه الشجرة ، هذا طرف ردائه دخلها بسحره فقال : نحرق هذه الشجرة فقال إبليس : شقوها بالمنشار شقاً قال : فشققت مع الشجرة بالمنشار
قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : هل وجدت له مساً أو وجعاً ؟ قال : لا ، إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها
هذا سياق غريب جداً وحديث عجيب ورفعه منكر ، وفيه ما ينكر على كل حال ، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث ، وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء : فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة فجاء على قول الجمهور كما في ظاره الحديث ، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران وقيل بل أشياع وهي امرأة زكريا ، أم يحيى هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم ، فيكون يحيى ابن خالة مريم فالله أعلم
ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين : فقال الثوري عن الأعمش عن شملة بن عطية قال : قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبياً ، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام
وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : قدم بختنصر دمشق ، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي ، فسأل عنه فأخبروه ، فقتل على دمه سبعين ألفاً فسكن وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وهو يقتضي أنه قتل بدمشق وأن قصة بختنصر كانت بعد المسيح كما قاله عطاء والحسن البصري فالله أعلم وروى الحافظ ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم عن زيد بن واقد ، قال : رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق ، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير وفي رواية : كأنما قتل الساعة
وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم
وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصي في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح ، عن مروان ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن قاسم مولى معاوية ، قال : كان ملك هذه المدينة - يعني دمشق - هداد بن هدار ، وكان قد زوج ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا ، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة العتيقة ، وقال كان قد حلف بطلاقها ثلاثاً ثم إنه أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال : لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك ، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا ، وذلك بإشارة أمها فأبى عليها ثم أجباها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جبرون من أتاه برأسه في صينية ، فجعل الرأس يقول له : لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها وأتت به أمها وهو يقول كذلك ، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى حقويها ، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن ويلطمن وجوههن ، ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياق أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها ، ففعل فلفظت الأرض جثتها عند ذلك ، ووقعوا في الذل والفناء ، ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بختنصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفاً
قال سعيد بن عبد العزيز : وهي دم كل نبي ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال : ايها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس فتبعهم إليها فقتل خلقاً كثيراً لا يحصون كثرة وسبى منهم ثم رجع عنهم